محمد ولد عابدين
لامراء فى أن الثقافة من المفاهيم المركبة الملتبسة الشائكة التى تأبى تعريفا جامعا مانعا -كما يقال – لغويا وابستمولوجيا وانتروبولوجيا ، إلا أنها تظل مرتكزا محوريا فى حياة الشعوب والأمم ؛ فهي رافعة النهضة وربيبة الحضارة وركيزة التنمية.
إنها من الناحية الانتربولوجية تمثل العلاقة الحيوية بين الإنسان و الوجود ؛ فهي تجسيد للكينونة والهوية بأشمل معانيها وأعمق تجلياتها ، وبهذا المفهوم القيمي تغدو الميزان الفصل الذى يقاس فى ضوئه مدى تطور الشعوب أو تخلفها ؛ فبقدر ماتنتج من ثقافة وأدب وإبداع تثقل موازينها ، فى حين تنكفئ شعوب أخرى ويتراجع أداؤها العلمي ويشح عطاؤها المعرفي ؛ فتخف موازينها !..وفى كلتا الحالتين فإن المسؤولية التاريخية تقع على عاتق المثقف الذى بات لزاما عليه أن يعي ضرورة حضوره الراهن ، وحاجة المجتمع إلى التفاعل معه والتعاطي مع مشروعه الفكري وخطابه التنويري فى شتى مناحي حياته الإجتماعية والسياسية والثقافية والأدبية.
ويبقى الحديث عن دور المثقف فى ظل غياب اقتناص المفهوم ؛ حديثا نظريا وفى غاية التجريد ، إذ أن مفهوم المثقف من المفاهيم التى يقترن استخدامها بميوعة شديدة فى العديد من السياقات والفضاءات.
ولأن المقام ضيق والموضوع متشعب ، فلنا مندوحة عن الخوض فى تحديد المفاهيم وتدقيق المصطلحات على غرار مايتطلبه البحث الأكاديمي ، وسنكتفى بإضاءات وإشارات سريعة إلى مانعنيه بالمثقف الملتزم والأدوار التى يراد له النهوض بها.
لا جدال فى أن الاتصاف بخاصية الثقافة يقتضى نسقا من المقومات والمرتكزات الاستثنائية ، ويستدعى تحصيل واستيعاب منظومة من المعارف والعلوم والخبرات والتجارب ؛ تتحول إلى رصيد ذاتي وجزء من مكونات ومقومات الشخصية الثقافية لحاملها ، وكثيرون هم من يحملون هذه الصفة -أويتحملونها- لكن قليلون هم من يمثلونها أو يتمثلون قيمها ويترجمونها فى حياتهم العملية ، لتتحول من طورها المفاهيمي النظري إلى خاصية الممارسة السلوكية الميدانية.
إن مفهوم المثقف يرتبط ارتباطا جوهريا بقيمته النضالية وأرومته النقدية ، ووظيفته التنويرية وروحه الثورية ؛ فهو عنوان لكل الممارسات الثقافية المنافحة عن المظلومين والمغبونين والمهمشين ، والمواقف الشجاعة المناصرة لإشاعة قيم الخير والحق والعدل فى المجتمع.
فالمثقف ينهض بوظيفة ذات مكونات متعددة ؛ معرفية واجتماعية وأخلاقية وإديولوجية ؛ فهو من تتكامل فى شخصيته وتتضافر فى تشكيل وعيه كل هذه الأبعاد مشفوعة أو مقرونة بما يمكن أن نطلق عليه كلمة السر فى شخصية المثقف الوطني ، ألا وهي ” الالتزام “.
أقول ذلك وقد اطلعت على حضور هذا المفهوم ومركزيته ؛ عبر تراث باذخ من تاريخ الفكر والوعي الإنساني الحديث والمعاصر ، فلاينبغى أن يغيب عن الأذهان والأفهام أن فكرة “الالتزام ” انبثقت من رحم تيارات فكرية وفلسفية ، ومقاربات إيديولوجية معروفة في سياقاتها التاريخية وحواضنها السياسية والاجتماعية.
فقد نضجت أساسا في القرن العشرين مع الماركسية المعروفة بتركيزها على البعد الجدلي بين النظرية والممارسة ، والدعوة الصريحة الملحة إلى حتمية “تجنيد الفكر من أجل خدمة قضايا وهموم الطبقة الكادحة” وتم التعبير عن الفكرة والتنظير لها بعمق ورصانة فى كتابات ” غرامشى ” حول ” المثقف العضوي ” و” المثقف التقليدي ” بيد أن الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر ؛ يظل صاحب الأثر الأكبر والتنظير الأشهر لمقولة ” المثقف الملتزم” الحاضر بقوة فى قضايا وطنه ؛ المسكون بهموم مجتمعه مع نزعة إنسانية رحبة فى بعض تجلياتها.
إن استدعاء علامات فلسفية وقامات فكرية مضيئة مثل سارتر وغرامشى وغيرهما…لاينخرط فى سياق رغبة في الاستنساخ أو الاجترار لمقولاتهم وطروحاتهم ، بقدرما هو دعوة للاستئناس والاستلهام وإعادة التأمل فى ماهية دور المثقف ، وتجديد وتحديد مهامه فى” الالتزام” التى لايكتمل وجوده الثقافي بدونها ، فهذه الوظائف هي التى تخرجه من فرديته المعرفية إلى كينونة اجتماعية أكثر عمقا ورحابة وتواصلا وفاعلية.
ووفقا لهذا التفكير الأكاديمي الرصين المستبطن للفكرة – حتى فى غياب الوعي الإيديولوجي للمفهوم – يولد المثقف الملتزم أو العضوي أو الريادي أو الطلائعي ؛ رمزا للعلاقة الجدلية بين الثقافة والمجتمع ونبراسا للتنوير والتثوير ، وأيقونة للنضال والتغيير ؛ من أجل إحقاق الحق وتجسيد قيم الخير و العدل والعيش الإنساني الكريم فى كنف الإخاء والرخاء.