شهدت منطقة الساحل الأفريقي خلال السنوات الثلاث الأخيرة تحولًا استراتيجيًا غير مسبوق، أعاد رسم خريطة التحالفات والسيادة في الفضاء الممتد من ليبيا إلى خليج غينيا.
ومع توالي الانقلابات في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، تبدلت أولويات الشركاء الدوليين، ووجدت موسكو فرصة نادرة لتعزيز حضورها العسكري، عبر ذراع جديدة تحمل اسم “أفريقيا كوربس”، خلفًا لميليشيا فاغنر.
هذه القوة الروسية، التي تتبع رسميًا لوزارة الدفاع، أصبحت اليوم واقعًا ميدانيًا في قلب الساحل، تدرب الجيوش، وتؤمن الأنظمة، وتحمي مواقع الذهب واليورانيوم، مقابل تراجع ملحوظ للدور الفرنسي والأمريكي.
لكن هذا التحول الأمني لا يمر دون كلفة استراتيجية، خصوصًا على الدول التي ما زالت تحاول الحفاظ على توازن دقيق، مثل موريتانيا.
تراجع الغرب وصعود روسيا: إعادة صياغة الأمن
في مالي، وبوركينا، ثم النيجر، بات الوجود الروسي رمزًا لانفصال هذه الدول عن النموذج الأمني الغربي، الذي وُصف بالفشل والعجز.
فبعيدًا عن الشعارات، لم تمنع سنوات من التدخل الفرنسي والأوروبي تمدد الجماعات المسلحة، بل زاد الوضع تعقيدًا، ومن هنا، قدّم الروس أنفسهم كبديل عملي: لا شروط ديمقراطية، لا محاضرات في حقوق الإنسان، بل دعم مباشر بلا مساءلة.
لكن هذه “البراغماتية” الروسية تحمل في طياتها مخاطر بنيوية.، فروسيا لا تقدم دعمًا مؤسسيًا، بل تحصّن الأنظمة القائمة، وتُراهن على الاستقرار عبر القوة.
ومع تراجع دور مجموعة دول الساحل G5، التي انسحبت منها مالي، وانكفاء فرنسا، تفقد المنطقة آليات العمل الجماعي، وتتحول إلى جزر سياسية متنافرة، يحكمها منطق الاصطفاف.
موريتانيا: الحياد في زمن الاستقطاب
وسط هذا المشهد المتقلب، تتخذ موريتانيا موقعًا فريدًا، فهي الدولة الوحيدة من بين دول الساحل التي لم تشهد انقلابًا، وتحافظ على علاقات متوازنة مع جميع الأطراف: شراكة دفاعية مع فرنسا، وتعاون اقتصادي مع أوروبا، وحوار أمني مع الجزائر، وتنسيق إقليمي حذر مع جيرانها الجدد المنفتحين على روسيا.
لكن هذا الحياد، رغم حكمته الظاهرة، يضع نواكشوط أمام تحديات معقدة، فكلما تعمق الحضور الروسي في مالي والنيجر، وكلما تدهورت العلاقات بين الغرب وتحالف العسكر، ستزداد الضغوط على موريتانيا لاختيار موقع أكثر وضوحًا.
وما يزيد الوضع حساسية، أن موريتانيا تخوض مغامرة اقتصادية كبيرة في مشروع الغاز المشترك مع السنغال، والذي تراهن عليه أوروبا كبديل استراتيجي للغاز الروسي، وهذا يجعلها أكثر التصاقًا بالمنظومة الأوروبية، وأكثر عرضة للاستهداف – أمنيًا أو دعائيًا – من خصوم هذا الخيار.
من الأمن إلى الاقتصاد: ساحة تنافس مفتوحة
إن توسع “أفريقيا كوربس” (فاغنر سابقا) في مالي وبوركينا والنيجر ليس تحركًا أمنيًا فقط، بل هو تموضع اقتصادي موجه، فروسيا تسعى للسيطرة على سلاسل استخراج الذهب واليورانيوم، عبر اتفاقات غامضة، تمنحها نفوذًا استراتيجيًا، و في المقابل، تضخ أوروبا استثمارات كبيرة في البنية التحتية الموريتانية، والغاز البحري، ومشاريع الهيدروجين الأخضر.
هذا التنافس يُحوّل الساحل إلى خط تماس بين قوتين عالميتين، ويضع موريتانيا – بحكم موقعها الجيوسياسي – في قلب معادلة شديدة التعقيد، فأي انزلاق أمني في الحدود مع مالي أو تمدد غير مضبوط للجماعات المسلحة قد يهدد الأمن القومي الموريتاني، ويقوض مناخ الاستثمار.
ولد الغزواني وإدارة الأزمة مع مالي
خلال فترة رئاسته للاتحاد الأفريقي، سعى الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني إلى تعزيز دور موريتانيا كوسيط إقليمي، خاصة في ظل التوترات المتصاعدة مع مالي.
ففي أبريل 2024، شهدت الحدود بين البلدين حوادث دامية، حيث قُتل عدد من المواطنين الموريتانيين على يد قوات مالية مدعومة بعناصر من مجموعة فاغنر الروسية.
ردت نواكشوط باستدعاء السفير المالي، وأوفدت وزير الدفاع ومدير المخابرات الخارجية إلى باماكو حاملين رسالة خاصة إلى الرئيس الانتقالي المالي، العقيد آسيمي غويتا، للتعبير عن استيائها والمطالبة بضمانات لعدم تكرار مثل هذه الحوادث.
وفي إطار الجهود الدبلوماسية، استقبل الغزواني في فبراير 2025 وزير الماليين بالخارج والاندماج الإفريقي، الذي سلم رسالة خطية من الرئيس غويتا، تؤكد على أهمية تعزيز علاقات الصداقة والأخوة بين البلدين.
كما التقى الغزواني بالرئيس المالي عاصمي غويتا في بكين لمحاولة احتواء التوترات الحدودية، في خطوة تعكس حرصه على معالجة الأزمة عبر القنوات الدبلوماسية.
موريتانياً: نافذة الفرص تضيق
في اللحظة الراهنة، تملك موريتانيا هامشًا مناوريًا مهمًا، فهي ما تزال تحظى بثقة الشركاء الغربيين، وتحافظ على مسافة من المحاور الصلبة، لكنها تدرك أيضًا أن الاستقطاب الدولي يتسارع، وأن “أفريقيا كوربس” ليست مجرد مظلة أمنية، بل مشروع نفوذ طويل الأمد.
السؤال الذي يفرض نفسه: هل تنجح موريتانيا في الحفاظ على توازنها الاستراتيجي في محيط يزداد تطرفًا؟ أم ستضطر قريبًا إلى الانضمام – صراحة أو ضمنًا – إلى أحد المعسكرين المتنافسين على روح وأرض الساحل؟
الجواب قد تحدده خياراتها في الأسابيع والشهور القليلة القادمة.