ضربة جديدة لنفوذ باريس في الساحل الأفريقي، جاءت هذه المرة من السنغال؛ الحليف الأقوى بالمنطقة، ليكتمل مربع الرفض الفرنسي.
رئيس الوزراء السنغالي، عثمان سونكو، رفع الكارت الأحمر الرابع لباريس في الساحل، حين خرج بتصريحات عن إمكانية إغلاق القواعد العسكرية في بلاده، ملمحا إلى تأثير هذا الوجود على السيادة الوطنية والاستقلال الاستراتيجي.
وتوجت هذه التصريحات علاقات ثنائية مليئة بالمفارقات، شهد فيها التاريخ على قتال آلاف الجنود السنغاليين إلى جانب فرنسا على الجبهات الأوروبية، في الحربين العالميتين الأولى والثانية.
ورغم هذه التضحيات، عندما طالبت السنغال بالاستقلال الوطني، واجهت مقاومة من فرنسا التي ترددت في منح مستعمراتها حق تقرير المصير، ما يبرز التناقض بين مساهمة السنغاليين في حماية فرنسا، ورفض الأخيرة التخلي طواعية عن داكار.
“السودان الفرنسي”
بعد الحرب العالمية الثانية، انضمت السنغال إلى ما عُرف بفيدرالية مالي، وهي اتحاد بين السنغال ومالي (حين كانت تعرف بالسودان الفرنسي) لتحقيق الاستقلال عن فرنسا.
ويقول المراقبون، إن المفارقة هنا تكمن في أن هذا الاتحاد كان خطوة نحو الاستقلال، لكن في نفس الوقت كان يمثل محاولة من فرنسا للحفاظ على نفوذها من خلال تشكيل كيان سياسي أكبر تحت سيطرتها.
في نهاية المطاف، انهارت الفيدرالية بسرعة بسبب التوترات الداخلية، وحصلت السنغال على استقلالها كدولة منفصلة في عام 1960.
تأثير ثقافي
وفي عيد الاستقلال، اعتمدت السنغال نظامًا تعليميًا فرنسيًا، مما أدى إلى انتشار اللغة الفرنسية كلغة رسمية وتعليمية في البلاد.
هذا الاعتماد على النظام التعليمي الفرنسي يعكس التأثير الثقافي العميق لفرنسا، لكنه لم يمنع الانتقادات السياسية للسياسات الفرنسية واستمرار الوجود العسكري لباريس، ما يبرز تناقضًا كبيرًا في علاقات البلدين، بين التبعية الثقافية والتعليمية، والنقد السياسي للاستعمار القديم والسيطرة المستمرة.
وبعد ٦ عقود، يعد توجه السنغال لوضع نهاية للوجود الفرنسي، استكمالا لما بدأته دول الساحل الغربي للقارة الأفريقية، لكن تبقى تساؤلات حول إمكانية نجاح داكار في استقلالها التام عن باريس، في ظل وجود التناقضات السابقة.
تهديد حقيقي
محمد شريف جاكو الخبير التشادي بالشأن الأفريقي يقول في هذا الإطار، “رغم الثقافة الفرنسية المتحكمة في السنغال، والعلاقات الضاربة في القدم، فشلت المحاولات الغربية في جعل السودان الفرنسي مؤيدا لباريس”.
ويتابع في حديث لـ”العين الإخبارية”: “أتصور أن السنغال ستكون رابع دولة في دول الساحل بعد مالي وبوركينا فاسو والنيجر تطرد الوجود الفرنسي”، مشيرا إلى حديث عثمان سونكو قبل الانتخابات والذي قال فيه إنه إذا فاز فسيرسل قوات سنغالية إلى مالي لمساندة الجيش ضد الإرهاب.
ويمضي قائلا إن “هذه التصريحات تمهد للدعوة لتحالف عسكري بين هذه الدول”، موضحا “لا أستبعد أن يكون ما ذكره سونكو عن غلق القواعد الفرنسية في بلاده، تهديدا حقيقيا، وليس مجرد حديث سياسي لترضية الشباب السنغالي المتعطش إلى استقلال القرار الوطني”.
ويرى الخبير التشادي أن الهدف الأساسي للرئيس السنغالي الجديد باسيرو فاي ورئيس وزرائه عثمان سونكو، هو “تقليل النفوذ الأجنبي بالبلاد خاصة الفرنسي”.
«علاقات متشابكة»
لكن الخبير التشادي يرى أن “العلاقات السنغالية الفرنسية متشابكة جدا ومتناقضة في نفس الوقت، فالسنغال من الدول الأولى التي احتلتها فرنسا، وجندت شبابا سنغاليين كثرا في الجيش الفرنسي الذي احتل معظم بلدان أفريقيا وجزءا من العالم العربي في سوريا ولبنان”.
ويضيف أن “الجنود السنغاليين شاركوا الجيش الفرنسي في الحربين العالميتين الأولى والثانية، على وعد بالاستقلال بعد نهاية الحرب، لكن فرنسا لم تنفذ وعدها”.
وتابع أن “هناك عددا كبيرا من المثقفين السنغاليين مثل سيجال سنجور الذي شغل عضوية البرلمان الفرنسي، وروي عنه أنه عندما كان يدرس اللغة الفرنسية في المدارس الفرنسية، كان يقول: أنا السنغالي أعلم اللغة الفرنسية للفرنسيين الصغار”.
جاكو يقول إن “السنغال ينظر إليها من كثير من الدول الأفريقية على أنها الأقرب لفرنسا، وذلك للاندماج الكبير مع الثقافة الفرنسية، ومع ذلك، كانت باريس دائما تخالف وعودها للسنغاليين”.
الأكثر من ذلك، يقول جاكو “الجيل الأول من الرؤساء في السنغال كانوا متزوجين بنساء فرنسيات، ما أدى لرواج المقولات الشهيرة: لكي تكون رئيسا للسنغال يجب أن تتزوج فرنسية”.
وعاد وقال إن الفترة الحالية تعتبر المرة الأولى التي تسكن فيها القصر الرئاسي في داكار، زوجة من السنغال”، معتبرا أن ذلك “تطور جديد في الجانب الاجتماعي”.
ثقافة متحكمة
وبحسب جاكو، فإن الثقافة الفرنسية متحكمة جدا في السنغال منذ عقود طويلة رغم امتلاك الأخيرة جمعيات إسلامية وطرقا صوفية كبيرة.
الخبير التشادي يقول: “الوضع يختلف الآن عن السابق، وهناك جيل من الشباب الأفريقي ينادون بالوحدة الأفريقية وتعزيز الثقافة الأفريقية واستقلال الذات عن فرنسا”.
قبل أن يستطرد “جيل الشباب استولى على السلطة في السنغال هذه المرة”.
رسالة
الدكتور عبدالمهيمن محمد الأمين مدير جامعة المغيلي الأهلية الدولية بالنيجر، يرى بدوره، أن “تصريحات سونكو بغلق القواعد الفرنسية جاءت في سياق الظرفية التي تشهدها المنطقة، ومحاولة التخلص من القواعد الفرنسية وهيمنتها”.
ويقول إن “سونكو تذكر الوعود التي لم تف بها فرنسا وتناقضها الكبير في ذلك”، معتبرا تصريحات رئيس الوزراء السنغالي “رسالة تنذر فرنسا وتبشر الشعوب الأفريقية بالتخلص من التبعية الفرنسية”.
ويضيف أن “وجود القوات الفرنسية بحجج أنها تقدم أهدافا معينة، هي في الغالب نوع من الدعاية والاستعمار”.
«ليست بهذه الخطورة»
أما الدكتور، محمد تورشين، الباحث السوداني في الشأن الأفريقي، فيرى أن هذه المفارقات في العلاقات بين البلدين جزء من تاريخ السنغال، و”غير مرتبطة فقط بالسنغال بل إنها واقع تعيشه كل الدول التي تتمتع بمواقع جيواستراتيجية”.
وقال تورشين لـ”العين الإخبارية”، إن المسألة “ليست بهذه الخطورة، وإنما هو واقع وجزء من التاريخ، لكن التخلص منه لن يتم بسهولة خاصة الثقافة أو اللغة”.
ويضيف أن “التخلص من الإرث الفرنسي، يحتاج لنظام متكامل في مجال التعليم والثقافة”، لكنه حذر من أن اللغات المحلية “محل خلاف حقيقي بين المكونات الاجتماعية، واختيار لغة أي مكون من مكونات السنغال سيكون بمثابة تعزيز لنفوذ تلك المجموعة، ويمكن أن يقود إلى انقسامات حقيقية”.
لذلك يقول، إن “الخيارات الثقافية محدودة وآثارها كبير، ومسألة استبدالها تحتاج إلى مجهود أكبر ربما لسنوات طويلة، كما أن اختيار لغة رسمية أفريقية، هي محاولة قديمة متجددة بدأتها تنزانيا ولم تحقق اختراقات وإنجازات كبيرة”.
أقكار شعبوية
في المقابل، يقول الكاتب الصحفي الموريتاني المتخصص في دول الساحل الأفريقي، عبدالله إمباتي، أن الملفات العالقة بين داكار وباريس “ليست تناقضات، وإنما أشياء تؤكد مدى التداخل العميق بين فرنسا والسنغال”.
وقال إمباتي لـ”العين الإخبارية”، إن “سونكو استغل الحراك الذي شهدته منطقة الساحل بالتخلي عن فرنسا والتوجه إلى روسيا كحليف بديل، في أثناء الحملة الانتخابية، للحصول على عدد من الأصوات، وعلل عدم تقدم السنغال بوقوعها تحت سلطة فرنسا، وهذه أفكار شعبوية ليست ذات أهمية كبرى”.
المصدر: العين الإخبارية