في زمن تتعالى فيه دعوات الانكفاء والانغلاق ، تأتي اتفاقية موريتانيا والسنغال بشأن تسهيل إجراءات الإقامة والتنقل لتعيد التأكيد على أن الجغرافيا والعلاقات التاريخية ليست عبئًا، بل رأسمالًا سياسيًا وإنسانيًا ينبغي استثماره لبناء مستقبل مشترك أكثر تماسكًا واستقرارًا.
ليست هذه الاتفاقية مجرّد إجراء إداري لتبسيط مساطر الإقامة، بل هي تعبير عن تحول استراتيجي في فهم الدولة لوظيفتها الإقليمية، وتكريس لنظرة جديدة ترى في الحدود نقطة تلاقٍ لا فاصلاً، وفي الجار حليفًا لا منافسًا.
لقد ظلّ مفهوم السيادة في تجارب ما بعد الاستعمار مرتبطًا بالحذر من الآخر وبالتحصين المفرط للمجال الوطني. غير أن ما تشير إليه الاتفاقية هو انتقال ناضج نحو سيادة منفتحة، تتأسس على الثقة والتقاطع لا على الشك والمراقبة.
فموريتانيا والسنيغال ، باتخاذهما هذه الخطوة، ترسلان إشارة واضحة إلى محيطهما بأنهما تتحرّكان وفق رؤية تقوم على الاستقرار المشترك والتنمية العابرة للحدود، إدراكًا منهما بأن التحديات المعاصرة – من الهجرة إلى الأمن الغذائي – لا يمكن معالجتها بالانعزال، بل بالتنسيق والتقارب.
تُحرّر هذه الاتفاقية العلاقة بين البلدين من ثقل الحسابات الهوياتية التي كثيرًا ما كانت تحضر في الجدل السياسي والإعلامي. فبدل أن تُختزل العلاقة في أسئلة من قبيل: من نحن ومن هم؟ تضع الاتفاقية العيش المشترك والتنقل المشروع كحقوق طبيعية لا تميّز فيها على أساس الجنسية.
إنها، بهذا المعنى، محاولة لعقلنة الروابط، ولتحويل التاريخ المشترك من معطى رمزي إلى بنية تنظيمية مرنة، لا تصادر السيادة ولكن توسع أفقها ليشمل حماية الإنسان لا فقط ضبطه.
وفي بعد آخر تبعث هذه الاتفاقية برسالة مزدوجة: داخليًا، تعزز روح الانفتاح والتقارب بين المكونات السكانية، بما يكرّس الوحدة الوطنية على قاعدة احترام التنوع. وخارجيًا، تقدم نموذجًا ناضجًا للتعاون الحدودي، في وقت تنهار فيه نماذج أخرى بسبب صراعات الهويات والتوجس من الجوار.
وهنا، يمكن القول إن الاتفاقية ليست فقط سياسة عمومية، بل موقف حضاري يراهن على التعاون لا الصدام، وعلى الاحتكاك الإيجابي لا العزلة.
وأخيرا فإن الاندماج الذي تُمهّد له هذه الاتفاقية، ليس ترفًا سياسيًا، بل ضرورة وجودية لشعبين يربطهما التاريخ والمصير.
وهو اندماج يتجاوز الحدود الإدارية ليعيد رسم ملامح العلاقة بين الدول الإفريقية، على أسس جديدة من الثقة والاعتراف المتبادل والمصالح المشتركة.
محمد افو